شركة نسلي ليست مجرد علامة تجارية كبرى في صناعة الأغذية، بل هي أضخم شركة أغذية في العالم. مع وجود أكثر من 2000 علامة تجارية تحت مظلتها، وانتشارها في 186 دولة حول العالم، تمتلك نسلي نفوذاً لا يُستهان به في أسواق الأغذية والمشروبات.
لكن وراء هذا النجاح الهائل تكمن سلسلة من الفضائح والاتهامات التي أثارت جدلاً كبيراً على مر العقود، بداية من تسويق منتجات ضارة للأطفال وصولاً إلى استغلال الموارد الطبيعية، والادعاءات بانتهاكات حقوق الإنسان.
كيف بدأت قصة نسلي؟
تأسست شركة نسلي عام 1867 على يد الصيدلاني الألماني هنري نسلي. كانت البداية عندما لاحظ هنري مشكلة صحية شائعة في عصره: ارتفاع معدلات وفاة الأطفال الرضع بسبب عدم توفر بدائل آمنة للأمهات اللواتي لا يستطعن إرضاع أطفالهن طبيعياً.
وبدافع من شعور الإحسان، قرر تطوير منتج بديل لحليب الأم، يعتمد على خليط من حليب البقر والسكر وزيت الخضار والقمح. هذا الابتكار كان نقطة تحول للشركة، وسرعان ما اكتسب شعبية كبيرة بين الأمهات، مما ساعد في إنقاذ العديد من الأرواح في وقت كان فيه سوء التغذية عند الأطفال مشكلة كبيرة.
بفضل هذا النجاح الهائل، بدأ هنري في توسيع شركته وأسس مصنعاً لإنتاج الحليب الصناعي بكميات كبيرة. ومع تزايد الطلب على منتجه، أصبحت نسلي مرادفاً للجودة والأمان في قطاع تغذية الأطفال.
لم يتوقف هنري عند هذا الحد، بل ساهم في تطوير منتجات أخرى مثل الشوكولاتة بالحليب، التي أصبحت هي الأخرى عنصراً أساسياً في نمو الشركة.
التوسع التجاري والتغير في نهج الشركة
بحلول أوائل القرن العشرين، كانت شركة نسلي قد تحولت إلى قوة تجارية ضخمة. بعد أن تقاعد هنري نسلي وباع الشركة، تولى مجلس إدارة جديد مسؤولية إدارة الشركة.
ومع مرور الوقت، أصبحت الشركة أكثر تركيزاً على توسيع أعمالها وزيادة أرباحها. وتغيرت توجهات الشركة من التركيز على الجودة ورفاهية الأطفال إلى تحقيق الأرباح بأي ثمن.
وعلى مدى العقود التالية، قامت نسلي بالاستحواذ على العديد من الشركات المنافسة في مختلف القطاعات، مثل الأغذية والمشروبات، مستحضرات التجميل، وحتى المياه المعلبة. ولكن مع التوسع التجاري الهائل، بدأت الشركة تتعرض لانتقادات واسعة بسبب سياساتها غير الأخلاقية، وخاصة في الدول النامية.
فقد قامت نسلي بالترويج لمنتجاتها بشكل مكثف، واستهدفت المجتمعات الفقيرة والنامية بتسويق منتجاتها الغذائية، مما أدى إلى سلسلة من الفضائح التي أضرت بسمعة الشركة.
فضيحة حليب الأطفال: تسويق مدمر لحياة الأطفال
في أوائل السبعينيات، كانت نسلي تواجه فضيحة كبيرة تتعلق بتسويقها لمنتجات الحليب الصناعي للأطفال في الدول النامية. كان الهدف من الحليب الصناعي، الذي بدأه هنري نسلي، هو إنقاذ الأطفال الذين لا تستطيع أمهاتهم إرضاعهم.
ولكن بحلول تلك الفترة، أصبح هذا المنتج يُسوق لجميع الأمهات، حتى القادرات على الرضاعة الطبيعية. والأدهى من ذلك، أن الشركة لم تتردد في استخدام وسائل غير أخلاقية لزيادة مبيعاتها.
لقد بدأت نسلي في إرسال موظفيها متنكرين في زي ممرضات إلى المستشفيات والمنازل في الدول النامية لإقناع الأمهات بأن حليب الأطفال المصنع هو البديل الأفضل لحليب الأم، وأنه أكثر تغذية وفائدة لأطفالهم.
واستخدمت الشركة الأطباء والشخصيات المؤثرة في تلك المجتمعات، حتى أنها قدمت هدايا للأطباء والمستشفيات لترويج منتجها. وبمرور الوقت، أصبحت الرضاعة الصناعية شائعة، مما أدى إلى انقطاع إدرار حليب الأمهات الطبيعي.
وفي المجتمعات الفقيرة التي كانت تعاني من نقص في المياه النظيفة، استخدمت الأمهات المياه الملوثة لتحضير الحليب الصناعي، مما أدى إلى ارتفاع كبير في وفيات الأطفال بسبب الأمراض التي انتقلت عبر تلك المياه الملوثة.
أثر الحليب الصناعي في الدول النامية
أحد أكبر العوامل التي أسهمت في كارثة الحليب الصناعي من نسلي هو أن الأمهات في الدول النامية، خاصة في إفريقيا وآسيا، كنّ يفتقرن إلى الوعي الكافي حول طرق الاستخدام الصحيحة للحليب الصناعي. فمع قلة التعليم وغياب القدرة على قراءة التعليمات، كانت الأمهات غالباً ما يقمن بإعداد الحليب بطرق غير صحية باستخدام مياه ملوثة.
ومن المعروف أن الرضع في تلك المراحل العمرية يكونون شديدي الحساسية للبكتيريا والجراثيم، مما أدى إلى انتشار الإسهال الحاد والأمراض المعوية، وأدى ذلك إلى ارتفاع معدل وفيات الأطفال.
في عام 1974، نشرت مجموعة من المنظمات الحقوقية تقريرًا بعنوان “نسلي تقتل الأطفال”، وهو تقرير فضح ممارسات الشركة وكشف عن العواقب الوخيمة لسياساتها التسويقية. وأشار التقرير إلى أن نسلي كانت تسبب في وفاة آلاف الأطفال سنويًا في الدول النامية من خلال تسويق حليب الأطفال المصنع كبديل آمن لحليب الأم.
اقرأ ايضاً المك بانج: ظاهرة الأكل حتى الموت وأسرار انتشارها
رد فعل الشركة والضغوط العالمية
على الرغم من الفضيحة الكبيرة التي واجهتها نسلي بعد نشر التقرير، لم تتخذ الشركة أي خطوات فعلية لتغيير سياساتها حتى عام 1978. في ذلك العام، واجهت الشركة تحقيقات قانونية دولية، وتم وضع قيود صارمة على تسويق الحليب الصناعي.
وقامت منظمة الصحة العالمية بوضع قوانين ولوائح جديدة تنظم كيفية بيع وترويج منتجات الحليب الصناعي، بما في ذلك حظر تقديم عينات مجانية للأمهات في الدول النامية، وضرورة توضيح المخاطر المرتبطة باستخدام الحليب الصناعي في حال عدم توفر المياه النظيفة.
وعلى الرغم من هذا التغيير، استمرت نسلي في تسويق منتجاتها بطرق غير أخلاقية في الدول النامية، متجاهلة تلك اللوائح في بعض الأحيان. ويشير العديد من التقارير الحديثة إلى أن الشركة لا تزال تواصل ممارساتها في بعض المناطق، رغم الالتزامات التي تعهدت بها في السابق.
استغلال الموارد الطبيعية: أزمة المياه
إلى جانب فضيحة الحليب الصناعي، تواجه نسلي انتقادات حادة بسبب سياساتها في مجال المياه. الشركة تُعد أكبر معلب للمياه في العالم، وتمتلك العديد من العلامات التجارية للمياه المعلبة.
في عام 2005، أثار الرئيس التنفيذي لشركة نسلي ضجة كبيرة بتصريحه أن “المياه ليست حقًا إنسانيًا”، مما أثار غضبًا شعبيًا عالميًا.
وفي الكثير من المناطق حول العالم، قامت نسلي بالسيطرة على مصادر المياه الطبيعية واستغلالها لتعبئة المياه وبيعها بأسعار مرتفعة، بينما كان السكان المحليون يعانون من نقص المياه النظيفة.
في باكستان، على سبيل المثال، قامت نسلي بالسيطرة على مصادر المياه في القرى الفقيرة، مما أدى إلى نقص كبير في المياه للسكان المحليين. وفي كاليفورنيا، استمرت الشركة في ضخ المياه وتعبئتها خلال فترة جفاف طويلة شهدتها الولاية، مما أثار جدلاً كبيرًا حول استغلالها للموارد في أوقات الأزمات البيئية.
فضائح استغلال الأطفال في إنتاج الكاكاو
تواجه نسلي أيضًا اتهامات خطيرة باستغلال الأطفال في إنتاج الكاكاو في إفريقيا. وفقًا لتقارير حقوق الإنسان، فإن الشركة تعتمد على مزارع كاكاو تستخدم الأطفال في العمل القسري في ظروف شديدة الصعوبة.
على الرغم من التعهدات التي قدمتها الشركة بوضع حد لهذه الممارسات بحلول عام 2005، إلا أن التحقيقات التي أُجريت في عام 2021 كشفت أن تلك الممارسات لا تزال مستمرة. وعلى الرغم من رفع قضايا ضد الشركة في المحكمة العليا الأمريكية، إلا أن الشركة نجحت في الفوز بها بسبب عدم وجود أدلة كافية لإدانتها.
إضافة السكر بشكل سري في منتجات الأطفال
واحدة من أحدث الفضائح التي تورطت فيها نسلي هي فضيحة “إضافة السكر”، حيث اكتشفت تقارير أن الشركة كانت تضيف كميات كبيرة من السكر إلى منتجاتها في دول العالم الثالث، دون الإفصاح عن ذلك.
على سبيل المثال، في دول مثل إثيوبيا وجنوب إفريقيا، كانت منتجات نسلي تحتوي على معدلات سكر مرتفعة جدًا مقارنة بنفس المنتجات التي تباع في الدول المتقدمة مثل ألمانيا وبريطانيا، مما زاد من مخاطر السمنة وأمراض السكري بين الأطفال في هذه الدول الفقيرة.
في الختام، على الرغم من الفضائح العديدة التي طالتها، لا تزال نسلي واحدة من أكبر الشركات في العالم. لكن سمعتها باتت مشوبة بسبب سياساتها غير الأخلاقية التي تراوحت بين استغلال الأطفال، تسويق منتجات ضارة، واستغلال الموارد الطبيعية على حساب الفئات الفقيرة.
هذه الفضائح تسلط الضوء على الوجه المظلم للشركات الكبرى، التي تتجاهل أحيانًا حقوق الإنسان في سبيل زيادة أرباحها.
ما رأيك أنت؟ شاركنا رأيك في التعليقات!