أخبار

شركات الأدوية والأمراض المزمنة: الربح قبل العلاج؟

 

في عالمنا اليوم، تعتبر الأدوية جزءًا أساسيًا من الحياة اليومية، سواء كان الأمر يتعلق في علاج الأمراض المزمنة مثل السكري وأمراض القلب، أو بتخفيف أعراض أمراض بسيطة كالصداع والزكام.

رغم أن قطاع الأدوية يُعد حيويًا للحفاظ على الصحة العامة، فإن الحقيقة الصادمة تكمن في أن هذا القطاع قد تحول إلى واحد من أكثر القطاعات ربحية في العالم، ويثير تساؤلات حول مدى اهتمام شركات الأدوية بصحة الناس مقابل اهتمامها بتحقيق الأرباح.

 

الربح على حساب حياة الإنسان

سوق الأدوية عالميًا يمثل صناعة ضخمة تصل قيمتها إلى تريليونات الدولارات. في عام 2023، بلغت قيمة سوق الأدوية العالمية نحو 1.59 تريليون دولار، وهو رقم يثير تساؤلات كبيرة حول كيفية تحول الأدوية من منتجات أساسية يجب أن تكون في متناول الجميع إلى سلع باهظة الثمن لا يستطيع الكثيرون تحمل تكلفتها.

لماذا أصبحت الأدوية مربحة إلى هذه الدرجة؟ هل يتعلق الأمر بتعقيدات عملية البحث والتطوير؟ أم أن هناك نظامًا رأسماليًا متجذرًا يسيطر على كل جوانب الصناعة؟

لفهم هذه الأسئلة، لا بد من استكشاف كيفية عمل شركات الأدوية وكيفية تحقيقها للأرباح من الأدوية التي تحتاجها البشرية.

 

كيف تعمل شركات الأدوية؟

أي دواء جديد يبدأ من خلال عملية معقدة وطويلة تشمل البحث والتطوير (R&D). هذه العملية قد تستغرق سنوات طويلة، وقد تتطلب استثمارات ضخمة تصل إلى مليارات الدولارات.

أول خطوة في هذه العملية هي اكتشاف جزيء أو مركب قد يكون له فوائد طبية. يتم اختبار هذا المركب في المختبرات، ثم تبدأ مراحل الاختبارات السريرية على البشر، التي قد تستغرق من 5 إلى 10 سنوات.

خلال هذه الفترة، تتحمل شركات الأدوية تكاليف ضخمة، ما يجعلها تلجأ لأساليب متعددة لتعويض هذه التكاليف بعد أن يصبح الدواء جاهزًا للتسويق. بمجرد انتهاء الاختبارات، تتقدم الشركة بطلب إلى هيئة الغذاء والدواء (FDA) أو هيئة تنظيمية أخرى للحصول على ترخيص لبيع الدواء.

بعد ذلك، يتم تقديم طلب للحصول على براءة اختراع، التي تمنح الشركة حق احتكار بيع هذا الدواء لمدة تصل إلى 20 عامًا.

 

براءات الاختراع: هل هي لحماية الإبداع أم لاحتكار العلاج؟

براءات الاختراع هي إحدى الأدوات الرئيسية التي تستخدمها شركات الأدوية لتعظيم أرباحها. تمنح براءة الاختراع الشركة حقًا حصريًا لبيع دواء معين، مما يعني أن الشركة يمكنها تحديد السعر الذي تريده دون مواجهة منافسة حقيقية.

الفكرة الأصلية وراء براءات الاختراع هي تحفيز الابتكار وتغطية تكاليف البحث والتطوير. ولكن في الواقع، تستخدم الشركات هذا الاحتكار كأداة لرفع الأسعار بشكل غير مبرر.

على سبيل المثال، خلال فترة احتكار الدواء، يمكن للشركة تحديد سعر مرتفع جدًا لا يستطيع الكثير من الناس تحمله، مما يؤدي إلى معاناة العديد من المرضى الذين يحتاجون الدواء بشكل عاجل.

بعد انتهاء فترة براءة الاختراع، يصبح بإمكان الشركات الأخرى إنتاج نسخ عامة من الدواء (الأدوية الجنريك)، مما يخفض الأسعار بشكل كبير. لكن خلال فترة الاحتكار، تكون الشركات في موقع قوي لجني أرباح طائلة من هذا الدواء.

 

قصص صادمة من عالم الأدوية

إحدى القصص الصادمة التي توضح استغلال شركات الأدوية لنظام براءات الاختراع هي قصة دواء “سيبرين” المستخدم لعلاج مرض ويلسون، وهو مرض نادر يؤثر على قدرة الجسم على التعامل مع النحاس.

في بداية استخدام الدواء، كانت تكلفة العلاج لا تتجاوز 38 دولارًا شهريًا. ومع مرور السنوات واستحواذ شركات الأدوية الكبرى على الشركات الصغيرة التي كانت تصنع الدواء، ارتفع سعره بشكل مذهل إلى 21,000 دولار شهريًا في عام 2015. في النهاية، أصبحت تكلفة العلاج السنوية للمريض تصل إلى 285,000 دولار. وهذا يعني أن المرضى الذين لا يستطيعون تحمل هذه التكلفة العالية يواجهون خطر الموت.

ليس هذا الدواء هو الوحيد الذي شهد ارتفاعات غير مبررة في الأسعار. هناك العديد من الأمثلة على أدوية أخرى شهدت زيادات هائلة في الأسعار بمجرد أن حصلت الشركات الكبرى على حق احتكار بيعها.

 

اقرأ ايضاً من حليب الأطفال إلى استغلال المياه: الوجه الآخر لشركة نستله

 

التلاعب بسوق الأدوية: من البحث إلى الربح

شركات الأدوية تستثمر مليارات الدولارات في تطوير الأدوية، لكن الهدف النهائي بالنسبة لها ليس تحسين صحة الناس فقط، بل تحقيق أقصى قدر من الربح. واحدة من الطرق التي تستخدمها الشركات لتعظيم أرباحها هي تمديد فترة احتكار الدواء عبر أساليب قانونية تعرف باسم “إيفرجرينينج” (Evergreening).

هذه الأساليب تشمل الحصول على براءات اختراع إضافية على تعديلات بسيطة للدواء الأصلي، مثل تغيير طريقة التصنيع أو تعديل الجرعة.

تسمح هذه الممارسات للشركات بتمديد فترة احتكارها للسوق لفترات طويلة، ما يعني استمرار ارتفاع الأسعار وتأخير وصول الأدوية الجنريك الأرخص إلى السوق. في حين أن هذه الممارسات قانونية، فإنها تمثل انتهاكًا للأخلاقيات الطبية، حيث أنها تعرقل وصول المرضى إلى الأدوية بأسعار معقولة.

 

هل هناك مؤامرات حول الأدوية؟

من أكثر النظريات انتشارًا هي تلك التي تدعي أن شركات الأدوية الكبرى تخفي علاجات لأمراض مزمنة مثل السرطان أو السكري لأن هذه الشركات تستفيد ماليًا من استمرار الأمراض المزمنة.

تُفضل الشركات، وفقًا لهذه النظرية، أن يظل المرضى يعتمدون على أدوية باهظة الثمن طوال حياتهم بدلاً من تطوير علاجات نهائية.

في حين أن هذه النظرية تبدو وكأنها تنتمي لعالم المؤامرات، فإن السياسات الربحية لهذه الشركات تجعل الفكرة تبدو قابلة للتصديق. مع ذلك، يشكك العديد من الخبراء في صحة هذه الادعاءات، مشيرين إلى أن تطوير علاج لأمراض مثل السرطان سيكون مربحًا جدًا للشركات، حيث يمكن أن تحقق مبيعات ضخمة من هذه الأدوية.

 

مثال: شركة “فالينت” وتكتيكات رفع الأسعار

في الفترة بين عامي 2010 و2015، أصبحت شركة “فالينت” مثالًا حيًا على استغلال شركات الأدوية للنظام لتحقيق أرباح طائلة.

قاد الرئيس التنفيذي للشركة، مايكل بيرسن، خطة لشراء أكثر من 100 شركة أدوية صغيرة خلال خمس سنوات فقط. بمجرد استحواذ “فالينت” على هذه الشركات، كانت تقوم برفع أسعار الأدوية التي تنتجها بشكل كبير دون أن تقوم بأي تحسينات تذكر على المنتجات.

رفع بيرسن سعر دواء “سيبرين” من 38 دولارًا إلى 21,000 دولار شهريًا خلال خمس سنوات فقط، كما رفع أسعار أدوية أخرى مثل أدوية السكري وأدوية أخرى تستخدم في علاج الأمراض النادرة. كانت هذه الاستراتيجية تهدف إلى تحقيق أقصى قدر من الربح على حساب المرضى، وهي استراتيجية وصفها الكثيرون بأنها شريرة.

 

لماذا لا يتم تطوير علاجات نهائية للأمراض المزمنة؟

عند النظر إلى هذه القصص وغيرها، يتساءل البعض: لماذا لا تقوم شركات الأدوية بتطوير علاجات نهائية لأمراض مثل السكري أو أمراض القلب بدلاً من الاعتماد على الأدوية التي تدير الأعراض فقط؟ الجواب يكمن في البزنس؛ فالعلاج النهائي قد يكون مربحًا مرة واحدة، لكن الإبقاء على المرضى معتمدين على الأدوية مدى الحياة يضمن أرباحًا مستمرة للشركة.

على سبيل المثال، إذا تمكنت شركة من تطوير علاج نهائي للسكري، قد تخسر تلك الشركة أرباحها من مبيعات الأدوية اليومية التي يعتمد عليها ملايين المرضى حول العالم.

لذلك، تفضل شركات الأدوية التركيز على تطوير أدوية تعالج الأعراض دون القضاء على المرض، وهو ما يجعل المرضى زبائن دائمين.

 

هل هناك مؤامرة لإخفاء علاجات الأمراض المزمنة؟

رغم أن الكثير من الناس يعتقدون أن هناك مؤامرة لإخفاء علاجات للأمراض المزمنة، إلا أن الحقيقة قد تكون أقل تعقيدًا. تطوير الأدوية يتطلب استثمارات ضخمة وأبحاث طويلة الأمد، والشركات ترغب في تعظيم أرباحها قبل أن تفقد احتكارها للسوق. وبالتالي، يمكن أن يكون هناك تباطؤ في تطوير بعض العلاجات بسبب القلق من عدم تحقيق العائد المالي المطلوب.

إحدى النظريات الشائعة هي أن هناك علاجًا للسرطان مخفيًا، وأن شركات الأدوية لا تريد إتاحته للعامة لأن علاج السرطان يمثل سوقًا ضخمًا يحقق أرباحًا هائلة. لكن خبراء مثل الباحثين في السرطان يشيرون إلى أن هذه النظرية غير واقعية، حيث سيكون من الصعب جدًا إبقاء مثل هذا العلاج سريًا نظرًا لعدد الأشخاص المشاركين في الأبحاث الطبية وتطوير الأدوية.

 

في النهاية، يتضح أن شركات الأدوية تلعب دورًا معقدًا في المجتمع. من ناحية، هي مسؤولة عن تطوير الأدوية التي تنقذ حياة الملايين. ومن ناحية أخرى، تسيطر عليها الدوافع الربحية التي قد تجعلها تضع صحة الإنسان في المرتبة الثانية بعد الأرباح.

الحلول تكمن في تغيير السياسات التي تحكم براءات الاختراع وأسعار الأدوية، وتشجيع الأبحاث المستقلة التي تركز على الأمراض النادرة والمزمنة.

 

ما رأيك أنت؟ شاركنا رأيك في التعليقات!

زر الذهاب إلى الأعلى